الآثار.. وسؤال الهوية (سورية أنموذجاً)
الآثار.. وسؤال الهوية، سورية أنموذجاً................. بقلم: فيكن بوغوص عباجيان
الحلقـــــة الأولـــى .....
مقــــــــدمــــــــــــــة
إن سوريا بامتدادها الطبيعي
(الجغرافي، الديموغرافي، منتجات الحضارات المادية، اللغة والحرف) تشكل الرقم الصعب
في إرث الشرق القديم فهي تدمج في مكوناتها خصائص بلاد ما بين النهرين مع خصائص
بلاد الشام المتضمنة بعمقها الساحل السوري الممتد من أعالي الإسكندرون حتى سيناء
بالإضافة لمؤثرات الأناضول وغرب المتوسط وبهذا تعد بحق مهد الحضارات، فمن آخر عصر
جليدي منذ أكثر من 18000 سنة، بزغت عصور إنسان الصيد وقاطف الثمار تلاها فجر أفق
جديد وهو الثورة النيوليتية (التحول الزراعي) في بدايات الألف العاشر ق.م، ثم
الكالكوليثيك في الألف السادس والخامس ق.م، وعصر البرونز المبكر والمتوسط والمتأخر
في الألف الثالث والثاني ق.م، ونشأة الممالك - المدن الحضرية العظيمة كإيبلا وماري
وأوغاريت وإيمار (الثورة الحضرية)، وعصر الحديد في الألف الأول ق.م والممالك
الفينيقية والآرامية وظهور الإمبراطوريات الكبرى كالآكادية والبابلية والآشورية مع
المؤثرات المصرية والأناضولية المتمثلة في (الميتانية- الحثية)،
والإخمينية-الفارسية، الإغريقية، والرومانية، وصولاً إلى مهد المسيحية الأولى،
وبعدها قاعدة الإمبراطورية الإسلامية متخذة من دمشق عاصمة لها، تلك الحاضرة
الأزلية مع أخواتها حلب وحماة وجبيل وأريحا والقدس... في كل هذه الفترات لم تهدأ
حركة النشاط الإنساني على هذه الأرض الهائلة والممتدة من الساحل السوري اللبناني
الفلسطيني إلى بلاد مابين النهرين، ومن جبال طورروس وزاغروس إلى سيناء، مشكلة
الحوض العظيم لبناء الحضارات، وفي عمق هذا المشهد المهيب نرى فرادة واستمرار الكنعانية
في تطورها وتأثيرها على حركة التطور العالمي والتي تَملَّكَ إنسانُها جرأة قلب
وثبات قدم في ترحاله البحري نحو آفاق مجهولة حاملاً إليها روحه الحضارية وشغفه
بالمعرفة والتواصل مع شعوب أخرى، هذا على الوجه الساحلي، أما على الطرف الشرقي
لهذا التشابك اللانهائي نرى أساطير مابين النهرين وعنفوان القوة وجبروت نضال
الإنسان في ترويضه لمصادر الطبيعة وتشكيل أولى الإمبراطوريات العابرة للمدن –
الممالك، لقد تحول إنسان الشرق القديم بين قطبين البدو – الرعاة، والمراكز
الحضرية، وديناميكية العلاقة بينهما زودته بطاقة لاتنضب من النهوض والاستمرار بعد
كل تهدم عظيم في دورات غلبت عليها الألفية. من الأبجدية والفنون ومهد الأسطورة
والمعنى ومغامرة الروح الإنسانية في توقها للمعرفة وفك أسرار الحياة بمواجهتها
للموت والسعي لإكسير الأبدية وطرح الأسئلة وتأمل النجوم والشمس والقمر، ووضع
جداولها وتلمس إدراك الزمن وبدايات العد، ووضع قواعد إدارة الممالك والممتلكات
وشرعَنة الحياة الإنسانية وخلق فنون الحرب وأدواتها والزراعة ووسائل الري وبدايات
الحِرَف وتشكيل المادة الطينية والعمارة من بيوت ومعابد ومدافن وطرق... هنا ترك
هذا الإنسان آثاره المادية الحضارية وترك أيضا آثاره المسطورة على ألواح الطين ومن
ثم البرديات، مشعلاً من خلالها شرارة بداية التاريخ ومبرهناً بذلك على تواجد
الطاقة الخلاقة الكامنة والمتفتحة لأنسنته في تطورها الصاعد إن تلك الأوابد
واللقى، والنقوش ليست حجارة أو أي تشكيل مادي آخر وإنما هي مسارات حياة، فرح وحزن،
نصر وهزيمة، ألم وسعادة، حب وتوق، ظلم وكراهية، إبداع ومعرفة، علم وأسطورة، دين
وألوهة ..إلخ، خبرات تفتحت وأخرى وصلت إلى طرق مسدودة إنها تعبر عن تجربة الحياة
أو لنقل عن الحياة في تجلياتها، إن ما نحن عليه الآن هو خلاصات تلك التجارب مضافاً
إليها تجربتنا الجمعية والفردية، من هنا تأتي الهوية ويأتي التصميم على الدفاع
عنها.
قُسمت هذه الدراسة الموسعة، والتي ستُنشر ضمن عدة
حلقات، إلى قسمين، تضمّن الأول موجزاً عن المشروع المعلوماتي للتوثيق المتكامل
للآثار السورية الذي عملت عليه منذ عام 2002 حتى منتصف عام 2008 ولم يكتمل المشروع
بصورته النهائية، وقد استقيت مادته من المجلد الثاني للدراسة المقدمة لأتمتة
الآثار السورية وهي عبارة عن البرمجيات المقدمة في معرض شام 2005 للمعلوماتية،
مبيناً أبعاد المشروع المعلوماتي وأقسامه والحقول التطبيقية المختلفه له وتكنولوجيا
المعلومات اللازمة لتطويره ومراحل تطبيقه. أما القسم الثاني فتضمّن موجزاً عن
الدراسات التي تمت بين منتصف 2008 ونهاية 2010، وفيه ملخص عن بعض المشاريع
المناهضة للآثار السورية وذات المدلولات الخطيرة جداً والمؤثرة للغاية على الهوية
والخريطة السورية - العراقية موضحاً فيه أهدافها ومموليها والمؤسسات الداعمة لها
والبعد العلمي والأيديولوجي لتلك المشاريع، ففي خطاب للرئيس الأميركي الأسبق بيل
كلينتون في نهاية التسعينات جاء في سياقه أن أصل الحضارات البشرية هي العبرية،
والصينية، والهندية، حينها استغربت هذه المقاربة، فعند سماعي للخطاب توقعت أن يذكر
الإغريقية مثلاً بدلاً عن العبرية كون الغرب هو إبن تلك الحضارة الإغريقية
الكبيرة، ولم أكن أبداً مطلعاً على إرث الشرق القديم، ولكن بعد كل هذه السنوات
والأبحاث أقول له: سيد كلينتون .. كنت مخطئاً .. فالأصل الثالث ليس العبرية بل هو إرث
الشرق القديم المتمثل بالحضارات السورية - العراقية، وتلك المشاريع المناهضة
التي نُفذت هي هندسة تثبيت مقولة كلينتون على حساب كل هذا الشرق. وفي
النتيجة يتجلى بوضوح مسار التصادم الحاصل بين المشروع الأول وسلسلة المشاريع في
القسم الثاني، ومركز التصادم ليس في التكنولوجيا الخارقة لمشروع التوثيق
المعلوماتي المتكامل للآثار، لكنه يكمن حقيقةً في المحتوى الذي كان يجب أن تمتلئ
به هذه البنية، وتحديداً المحتوى القادم من مواقع التنقيب.............................(يتبع)
الآثار.. وسؤال الهوية (سورية أنموذجاً)
مراجعة بواسطة solaiman ameen
في
12:45:00 م
تقييم:
ليست هناك تعليقات: